لا شك أن هناك فنا لقتل الوقت ، ومن العبث مطالبة الكتابة والفقر بالحديث عن هذا الفن بالذات ، لكن قد يبتلع النقاش حول مصطلح الطبقة الوسطى الكثير من وقت الفراغ ، فالحديث عن تاريخ هذه الكلمة من ماركس مرورا ببورديو إلى ظهور مفهوم ” موت الطبقات ” ليس فيه سوى القليل من المتعة وقد يصيب القارئ بإعياء ذهني ، ما يهم هنا هو أن هذه الكلمة توفر استجابة مقبولة لتفسير التفاوت بين طبقة و أخرى ، بعيدا عن مزاج الكلمة الأيديولوجي و السياسي مع التمسك بجانبها العاطفي ، هذه الكلمة تعني هنا مجموعة أفراد في وضعية مشابهة ، و لا أريد أن أفترض شيئا حول علاقة هذه المجموعة بعضها البعض في الوقت الحالي ، ما يجب أن نقف عنده قليلا هو أن الطبقة الوسطى في ليبيا هي جزء من بنية اجتماعية نشأت في إطار اكتشاف النفط في ليبيا ، وهي طبقة معظمها من الموظفين ، و حرفيين ، وملاك عقارات صغار ، المثقفين بصفة عامة ، وأساتذة الجامعة ، و قيادات الجيش ، فهي ليست العمال ، ولا هي كبار أرباب العمل ، كلمة “الأزمة ” تجعلنا مجبرين على استعادة الحكاية من بدايتها ، فبعد قيام النظام السابق بانقلاب 1969م تحول المجتمع بالكامل إلى طبقة وسطى مكونة من موظفين ذوي مرتبات و تعيش حالة مظلمة ومثيرة للشفقة ، وهذا لم يكن بسبب صعود الطبقة الوسطى أو ازدهارها ، فالقذافي ودون أن يلومه أحد تقريبا زحف على كل شيء ، تم تأميم الأراضي و العقارات ، و الصناعات البسيطة و المتوسطة ، ووضع يده على كل المؤسسات المالية ، وتم التعدي على سلطة القضاء لدرجة تحول معها القانون إلى تفصيلة سطحية في مجرى الأحداث ، لقد اعتبر القذافي هذه الأفعال نوعا من الثورة الاجتماعية ، وربما فهم أن الاشتراكية هي ملكية الدولة لوسائل الإنتاج ، لكن لم تكن هناك طبقة عاملة كي تكون الوسيلة لتحقيق ذلك ، ففعل مثل ما يفعل الطاهي الماهر الذي لا ينجح في طبخته إلا عن طريق الخطأ ، كانت اللجان الثورية هي الوسيلة ، وهذه اللجان تشبه ونحن نتذكرها الآن الغرفة السرية أو إحدى كوابيس كافكا الهزلية ، لكن هذه الثورة كانت بلا وجود اجتماعي يشكل أساسها ، لقد توقع القذافي أن الرعاية الصحية المجانية ، و التعليم المجاني ، و توفير البضائع الأساسية هي الاشتراكية ، و أن هذه الاشتراكية ستتحقق بمجرد خروجنا من تاريخ ليبيا إلى تاريخ القذافي ، لقد كانت أفكاره السياسية ساذجة إلى حد اللامعقول ، وكان رومانسيا في إعجابه بعالم الفقراء ، ربما سمع بأن مهمة الاشتراكيين الوحيدة هي تأمين التوزيع المتساوي للثروة القومية ، لكنه كان مع أحقية من قام بالانقلاب في الاحتفاظ بالسلطة ، فأصبح رأسمالي يمتلك دولة كاملة يعيش فيها أجراء، فمن يستطيع مصادرة ملكية المالك ، لا أحد قادر على الإدانة ، واستحالة الإدانة هي المطلق ، لقد تحول القذافي إلى مطلق ، والأمور كانت تسير بحسب فلسفته الرديئة ، وبهذه الفلسفة فكك الملكية ومعها الهيكل الاجتماعي و الثقافي ، و تحوّل الشعب الليبي إلى موظفين بما في ذلك أبناء البرجوازية ، خلق القذافي طبقة وسطى تعيش عالم الضرورة لا عالم الحرية ، طبقة ليس لديها تصور لما يجب أن يكون عليه المجتمع ، بل مبدأ اختيارها كما يقول بورديو “الضروري وهذا يقتضي تكيفا مع الضروري ” ، لم تتمكن هذه الطبقة من حيازة تعليم حقيقي ، وتفتقر لعادة القراءة ، وتجد صعوبة في فهم حالتها ، لقد كان الجهل و الرعب يقف بينها وبين الإرادة القوية و الأفكار السليمة ، ما يربط هذه الطبقة في أيام النظام السابق ليس البناء الذهني ، بل الحاجات و الميول و العادات و قواعد النشاط و التصورات ، و السلبية السياسية ، و الركود الفكري هو أكثر ما يميزها.
البيروقراطية هي طبقة تنظم النشاط الجماعي وتستفيد منه ، وهذه البيروقراطية في ليبيا تتكوّن من موظفين في أعلى السلطة غير خاضعين للرقابة من الأسفل ، هذه الطبقة تستخدم المرتب كسلاح في صراعها من أجل البقاء في أعلى الهرم ، تنتمي هذه الطبقة إلى البرجوازية ، ولا يحصل الإنسان فيها على المال بسبب التوفير من مرتبه الشهري ، فالتفكير في ذلك مفرط في سطحيته ، يحصل الإنسان على المال في هذه الطبقة من خلال النهب فقط ، و الغريب أن هذه الطبقة نفسها هي التي تقدم لنا تصورا زهديا للثورة وتنظر إلى المطالبة بتحسين نوعية الحياة في بلادنا نظرة اشمئزاز و احتقار ، لقد تحوّل النهب إلى ثقافة بعد أن تلاشى كل أمل في تحقيق أهداف الثورة ، و كل أمل في تغيير حقيقي وشامل ، كل فرد في الطبقة الوسطى القديمة ، أو الطبقة الفقيرة و المعدمة في الوقت الحاضر يريد الوصول إلى حياة كريمة وربما القليل من البرجوازية ، ويريد من قوة سياسية وثقافية مساعدته على ذلك ، لكن هذا الفرد نفسه كاره للسياسة ، لأنه يظن أن الرأسماليين قد أصبحوا رأسماليين بسبب الذكاء و الجهد المبذول و التوفير ، و الحقيقة أنهم أصبحوا كذلك بسبب سياسة اقتصادية انتقائية ، لا تثق هذه الطبقة في السياسة على الإطلاق ، لكنها تعترف بأنها في حاجة إلى راع سياسي ، وبين هاذين الطرفين المتناقضين من المعادلة أصبحت السياسة في معزل تام عن تشكيل أي إرادة جماعية ، وقد زاد من حدة هذه الأزمة فشل التجربة السياسية بعد الثورة ، فسياسي ما بعد الثورة حوّل كل أشكال الأزمة إلى منفعته الشخصية و عمق مفهوم النهب ، فسياسيي ما بعد و ما قبل الثورة لا تشكل السياسة بالنسبة لهم إلا مبحثا نظريا ليس له علاقة مباشرة بالواقع ، فالعمل الحزبي غائب في ليبيا أيام الملك و فترة حكم القذافي و حتى الآن ، وذلك لأن الأحزاب السياسية لم تنخرط في سلسلة من الاجراءات تعلم الناس معنى أن يكونوا أعضاء فيها ، فهي أحزاب مكوّنة من جهل سياسي تام يقف وراء وجوه بارزة ومعروفة اجتماعيا وليس سياسيا ، و ما يُمارس من سياسة في الوقت الحالي لا يمكن فهمه إلا في إطار سياسة إنسان الكهوف و المغاور ، فالسياسة ليست ردة الفعل تجاه الأحداث ، بل هي طريقة في التفكير و العمل و هذا ما لا نجد له أي مؤشر في هذه الأيام ، و أعتقد أن عدم وجود نخبة سياسية حقيقة سوف يؤجل الاستتباب السياسي إلى أجل غير مسمى .
أما ما يتعلق بالقوة الثقافية ، فالطبقة الوسطى التي منها المثقفين أنفسهم تشكك في جدوى العمل الثقافي ، وهذه القوة الثقافية لم تكن واعية بدورها الجديد ، فهي لم تساهم في تطوير الهوية الاجتماعية للفرد ، ولا ظهر فيها إشارة إلى فن جديد أو أفق لثقافة جديدة ، ولم ترفض بشكل واضح وصريح الآراء الثقافية التقليدية و الرجعية ، ولا قررت الوقوف في وجه تدمير المؤسسات و المجتمع بشكل كامل عن طريق كتابات يظهر فيها المسعى التأويلي لما يحدث في الواقع بدل أن يفرض على الناس تصورا لهذا الواقع وقد تم تحريفه من قِبل إحدى المجموعات الاجتماعية المستفيدة من هذا التصور ، عدم وجود هذه الكتابات والتصريحات يعطي المجال لتفسير واحد فقط لما يحدث ، لا شك أن مهمة تسليط الضوء على هذه التغييرات في التراتبية و التركيبة الاجتماعية وما سينتج عنها من عدم استقرار المجتمع لزمن طويل هي مهمة المثقفين بشكل عام و الكتّاب بشكل خاص ، ومهمة أخرى لا تقل أهمية عن سابقتها هي إعادة بناء المضمون العقلي للمجتمع ، وهذا لا يتم إلا من خلال نظرة عميقة في ثنايا الماضي القريب ، و أيضا من خلال خطاب بلاغي ثقافي يفسر الأحداث و لا يتحدث فقط عن الأثر الذي يتكشف بسبب هذه الأحداث في المجتمع ، غياب القوة السياسية و الثقافية بهذا الشكل أدى إلى غياب الدولة الوطنية ، و إلى هذه الخيبات المتراكمة من تاريخ قيام الثورة وحتى اليوم ، فبدل أن تقوم القوة السياسية بإرشاد هذه الثورة استغلتها لصالحها ، وبدل أن تقوم القوة الثقافية بممارسة الثورة في الحياة اليومية كانت الثورة بالنسبة لها موضوع تأمل .
من يدفع ثمن هذه الخيبات بشكل مفرط هي الطبقة الوسطى ، فآلية النمو الرأسمالي هي خلق تناقضات داخلية وفترات لا نهاية لها من التوترات ، وامتصاص التجارة للسياسة ، وفي هذه الفوضى يضيع من لا يمتلكون إلا مرتباتهم كوسيلة للعيش ، ففي كل ثورة هناك عناصر غير واعية وعمياء و على المثقفين امتلاك الوقوف على الأخطاء ومن ثم تصحيحها ، و أن يكونوا ثوريين من خلال العداء مع الحس العام المحافظ و الذي يرفض كل جديد ، لقد جعلت الثورة الطبقة البيروقراطية في حالة تحفز ودفاعية وهي من يحافظ على الوضع القائم الآن بسبب الخوف من التأثير الدرامي للثورة على مكاسبها ، و في المقابل تحاول الطبقة الوسطى أن تبقي صورة ذكرى الاستقرار المادي التي كانت تعيشها فترة النظام السابق و لا تتنازل عنها للنسيان ، لكن الحقيقة وفي ظل هذه الظروف فإن الفقر سيستمر ، فهل على هذه الطبقة التكيف مع الفقر ؟ لا يمكن طرح هذه الأزمة إلا بهذا السؤال الثقيل و الفظ ، والذي لا تأتي الأجابة عنه إلا متأخرة جدا ، فالعولمة ليست سوى حيازة المال و السلطة في يد الطبقات العليا ، ويجب حرمان الطبقات السفلى منها ، وبهبوط الطبقة الوسطى يكون المجال واسعا أمام طبقة مكوّنة من نسبة قليلة من الأفراد تفكر في النهب و الربح و ليس في احتياجات المجتمع الذي تعيش فيه ، أما أحلام الطبقة الوسطى التي كانت وقود هذه الثورة فسيغطيها الدم و الطين ، وليس أمام هذه الطبقة إلا الدفاع عن نفسها ، و لا يمكن الكلام عن إصلاح في حالتنا بالذات ، فالإصلاح تعني الرجوع إلى حالة بدئية تم تحريفها في الأثناء ، وهذه الحالة التي يجب الرجوع إليها لا وجود لها في حالتنا ، و لا الحديث عن نهضة ، لأن النهضة تعني تجديد تقليد نسي في الأثناء ، و هذا التقليد لا وجود له في حالتنا ، لم تنقلنا الثورة إلى الأمام و لا إلى الخلف ، ولا وضعتنا حتى في خط مواز مع النظام السابق ، فنحن الآن في مرحلة فوضوية وعبثية من الناحية السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية ، تتميز بتفاوت غريب في الأجور ، فالمال يتركز في جهة من المجتمع و البؤس يتركز في الجهة الأخرى ، و يظهر هذا البؤس بكل وضوح في أشكال لا حصر لها من التفاصيل الصغيرة في حياتنا اليومية ، نحن في فترة لا يحصل فيها إلا الموظفون في قطاعات غنية مثل النفط و الكهرباء على الرعاية الصحية ، ولا يحصل فيها إلا أبناء طبقة معينة على تعليم جيد في مدارس بعينها ، نقص في البضائع ، وارتفاع في الأسعار ونمط أجور مخزي ، وكل هذا بسبب عدم وعي الطبقة الوسطى بما سيكون عليه حالها في الأيام القريبة القادمة .
إن السياسة ليست فقط الصراع على السلطة ، بل هي في صميمها تقسيم للعالم ، إلى أعلى و أسفل ، و الديمقراطية ليست قيام السلطة بالعمل لمصلحة مجموعة صغيرة من المجتمع على حساب الأغلبية ، وليس الاقتصاد ضخ الأموال في البنوك خوفا من الانهيار ، وعلى المجتمع أن يستيقظ من هذا الكابوس ، وهذا لن يتم إلا بكوادر ثقافية وطنية تسعى للتنوير بكل الطرق ، لابد من حركة تنويرية تفسح المجال أمام المجتمع لفهم مضمون تقسيم الأماكن و الأوقات و المواقع و الوظائف وتقسيم كل شيء على أساس المال في جانب و البؤس في جانب آخر ، على الطبقة الوسطى أن تنخرط في ثورة اجتماعية بعد فشل الثورة السياسية ، و أن تعرف أن العقبة التي تقف في طريقها هي الجهل و الابتذال و بناء ولاء عاطفي ساذج على أساس جهوي ، أو قبلي ، أو وجوه بارزة لا تعمل إلا على استغلالها لمصلحها ، الطبقات الاجتماعية ليست نتاج تصنيف المراقب ، بل هي كيانات موجودة وحية ، وعلى هذه الطبقة أن تكوّن لنفسها كيانا واضحا ، ووجودا مستقلا ، و أن تكون على قدر كاف من الوعي بحيث يجعل هذا الوعي مصالحها واضحة وطريقها للوصول إليها واضح المعالم ، قبل أن تكون الهوة واسعة بين دخل الأغنياء و دخل الفقراء ، و أن يصبح وجود طبقة معينة قانونا لا يمكن مخالفته أو شطبه ، وقبل أن يتحوّل الإنسان الليبي إلى متسول يجمع الصدقات ، ويتفشى وباء مجتمعي اسمه الفقر في دولة كانت في لحظة ما من أغنى دول العالم ، علينا وضع تصور جديد لشكل الدولة يضمن المساواة ، والعدالة في توزيع ثروة لكل مواطن حق فيها ، علينا محاربة ثقافة النهب ، محاربة التصور الزهدي للثورة ، علينا إيلاء الثقافة المزيد من الاهتمام ، إيلاء الحياة المزيد من الاهتمام ، و أن تكون الثقافة مطلبا أساسيا للجميع ، ثقافة تعمل على إيجاد قطيعة مع أساليب في العيش و الكسب و الكلام ، وخلق نمط حياة جديد ، نمط يرتكز على فهم الرغبات و المخاوف و الأفكار العقيمة في المجتمع وتغييرها برغبات و أفكار جديدة وبسيطة و غير معقدة ، ثقافة تعمل على خلق طليعة من أبناء الطبقة الوسطى ، يفهمون الوطنية ويكونوا هم الضمان لقوة خطاب هذه الطبقة في مواجهة افقارها المتعمد و تجويعها و إذلالها .