لا أحد يفكر في موضوع السير على الأقدام،وقد يظن البعض أن الموضوع تافه إلى حد ما،أحد عيوب الحداثة أنها حرمتنا من التفاعل مع البيئة،بسبب هذا الحرمان أصبحنا نفتقد لحس المسافة،ما هو القريب؟ما هو البعيد؟الكثير من الفنانين و المفكرين تعاملوا مع المشي كمقاومة للقيود و التغريب في العالم الحديث،لقد عاشت البشرية قبل الحداثة و التصنيع من خلال المشي نوعا من الترابط و التفاعل،فالمشي هو ما وسع عالمنا كبشر،و المشي يفصل بين الحيوان و الإنسان،لقد انكشف العالم أمام الإنسان المنتصب بشكل مستقيم و القادر على المشي،فكل الخبرات الثقافية،و بداية الحضارة نفسها مرتبطة بالمشي،عندما قرر الإنسان الخروج من الكهف إلى العالم في رحلات استكشافية كان هذا الخروج بمثابة القوة الدافعة لوجود الحضارة،هذا التفصيل الإنساني الذي يمكن أن ننظر إليه على أساس أنه تفصيل هامشي،هو في الحقيقة ليس فقط حركة الجسم،بل هو إعلان عن إرادة الإنسان،المشي هو إرادة التغيير و التقدم،المشي هو الانتقال من المعروف إلى المجهول،هو الانتقال من القرية إلى المدينة،لهذا ارتبط المشي في مرحلة ما من تاريخ البشرية بالحداثة،بعدها انقلبت الحداثة على المشي و أصبح مضيعة للوقت،و هذه المفارقة انتجت توترات كبيرة في المجتمع الحديث،كيف يمكن أن تعيش الفضاء من حولك و أنت لم تراه؟الفضاء بالنسبة للإنسان الحديث يسجل غيابه في كل لحظة،بسبب الحركة السريعة و المستمرة،المشي ببطء يمنحنا فرصة اللقاء مع الفضاء و التعرف عليه عن كثب،كلمة تنزه أصبحت لا تعني شيء في عالم اليوم،كلمة تسكع أصبحت محملة بدلالة سلبية،كان المشي يوفر لحظات من البصيرة و الحديث مع الذات،في عصرنا الحديث أصبحت التكنولوجيا تشكل عائقا بيننا و بين الاحساس بالمشي،النظر إلى الهاتف النقال لا يفسح المجال أمامنا للنظر أو التفكير،تشعر و أنت تسير في الشارع أنك تنظر إلى جثث تتحرك بسرعة،تنظر إلى الهاتف،تتكلم في الهاتف،تبحث عن شحن للهاتف،و لهذا تحوّل المشي إلى فعل مقاومة لهذه القيود الفكرية و العاطفية للحياة الحديثة،فعل المشي يدل على الحرية،لهذا اختار الكثير من الكتَّاب و الرسامين و المصورين القيام برحلات على الأقدام،ليشعر الكاتب أو الفنان بعدم الارتباط بوقت أو حالة أو مجتمع أو ثقافة،ليشعر بأنه حر و لا يمشي بدافع الضرورة،بل للشعور بالحركة و المسافة و التفاعل مع الفضاء من حوله،لأن الإنسان في اللحظة التي مشى فيها لم يسأل أحد لماذا قرر المشي،أو إلى أين سيذهب،و قد كتب الكثير من الكتاب عن المشي كفعل ثقافي تحرري من وردزورث إلى جاك دريدا و فالتر بنيامين،وهناك الكثير من القصائد و الروايات التي جعلت من المشي فعل ذو مغزى بالنسبة للخيال و الواقع،هكذا يتحول المشي إلى جهاز سرد للمعرفة المكانية،لاستكشاف تعقيد المكان الذي نعيش فيه،المدينة يجب أن لا ننظر إليها من الأعلى مثل الطيور،بل يجيب أن نمشي في شوارعها لمعرفة كيف يعيش الناس فيها،يجب أن تكون لدينا خريطة سردية للمدينة التي نعيش فيها،و أن لا نكتفي فقط بمعرفة حدودها الجغرافية.