Skip to content

حزن لا يوصف

الأدب يعلن أنه يكره الحرب،لكن لا يخفي أنه مفتون بها،الحرب موضوع بارز في كل الأدب الكلاسيكي،حتى سافو كائن الحب بإمتياز لم تسلم من هذه الفتنة،الحرب طقس من طقوس الأدب،الكثير من كتاب القرن العشرين كانت الحرب جزء من حياتهم،ودائما ما يتم الإشارة إليها كمكان وراء كل شيء،الحرب هناك في منطقة التي لن تكون فيها الكلمات في حوزتك أبدا،جورج تراكل أحد هؤلاء الشعراء الذين عاشوا الحرب،عاش على جسر العظام يغني الأسطورة المنسية،عاش في ظل الخريف،في رثاء المرأة التي تغرق المسار الأزرق،في حظيرة مع تسعين جنديا مصابين بجروح لا شفاء منها،كان يسمع أنينهم وصلاوتهم من أجل إنهاء معانتهم،ينتظر صمتهم جميعا ليسمع كلمات الحزن الذي لا يوصف،الحزن الذي لا يعبر عنه،ينظر إلى فواصل من الصخور المتحللة،ينظر إلى غابة غارقة في هالة زرقاء،في الحديقة القديمة و على الرخام الرمادي،كتب تراكل عن الأوراق الحمراء و النوافذ المفتوحة،عن رائحة الموت وهي ترسم دائرة من الفزع،كتب تراكل تحت وجه الليل الصامت،”نحن المسافرون بلا هدف*الزهور التي ترتجف من برودة الموت”،الموت يمتلك حقيقة حزينة لا توصف و لا تتغير،الموت هو ركبة الغريب في العشاء الأخير،لهب النبيذ الأحمر وطعم الخبز،يسير تراكل في الطرق المرسومة على ورق الخرائط القديمة،لكن الجثث على هذه الطرقات لا تتحرك على الإطلاق،يشعر تراكل بالحاجة اليائسة لفعل أي شيء،العمل في صيدلية المستشفى العسكري،الذهاب إلى الخطوط الأمامية،يرتدي سترة الفراغ،يشرب الصمت حتى لا تجد الأفواه ما تغنيه عن الحقول،يرسم وجوه الموتى على الرمال قرب حافة البحر،تراكل لا يتحدث عن صعوبة الموت،لا يتحدث عن جرح الحزن الذي لا شفاء له،يتحدث عن صعوبة العيش في زمن الحرب،العيش وسط دوامات من الحزن الذي لا يوصف،يتذكر اللعب مع غريت أخته الصغيرة،يتذكر الطريقة التي تمشط بها شعرها الأزرق في كوخ الطفولة،هذه الذكريات التي لم يعد لها اسم و لا ملامح،مجرد شبح من ماضي مهزوم.

ولد جورج تراكل يوم 3 فبراير 1887 في سازبورغ،حيث استقر والديه،توبياس تراكل وماريا هاليك،أمضى جورج تراكل ست سنوات من عمره،وهو  يلعب في فناء البيت،في الليل يراقب الفئران،يضيء الفناء قمر الخريف الأبيض،من حافة السقف تسقط ظلال جميلة،تظهر الفئران ببطء،تزحف في الفناء هنا و هناك،ترحل مثل الأشباح تحت ضوء القمر،وتترك خلفها رائحة تشبه رائحة المراحيض،لعب في هذا الفناء مع سبعة اشقاء و أخ غير شقيق،مات أبوه و تركهم جميعا في حضن أم باردة،لم يفهمها جورج أبدا،لهذا غاب في الوحدة،عندما يكون في سريره يبكي بلا سبب،المرأة التي تربى جورج على يدها فعلا هي المربية الألزاسية ماري بورينغ،لقد غرست في جورج حب اللغة الفرنسية،كان لديه كوخ في الفناء يتحدث فيه هو وغريت مع الأروح،لم يكن جورج طالبا لامعا،كان يكره فصول اللغات الإغريقية و اللاتينية إضافة إلى الرياضيات،أحب الأساطير الإغريقية و الرومانية،يقول صديقه فرانز جريم صديقه في تلك الفترة:”كان لديه شيء مميز،يختلف عنا جميعا،كان يمشي معظم الوقت،ويميل إلى الأمام وهو يمشي كما لو كان منحنيا”،لكنه قرأ نيتشة،إبسن،فرلين،رامبو،وتعلم التدخين في سن مبكرة جدا،درس الصيدلة وعمل كمتدرب في صيدلية لمدة ثلاث سنوات،بدأ الكتابة في المرحلة الثانوية،في 1908 ذهب إلى فيينا وعاش فيها،قال عن فيينا:”من الجميل العيش في هذا الجو الفكري،لقد تلقى كل مواطن في هذه المدينة تعليما عالميا تجاوز الحدود الوطنية،وهذا ما جعله مواطنا عالميا”،كانت فيينا بالنسبة له عالما من البهجة اللانهائية،في عام 1909 نشر أول قصيدة و تعرف العالم على موهبة جديدة،في هذه القصيدة يطالب العالم المادي و الرمادي بأن يكون مثل الزهور،فقيرة جدا وجميلة جدا،في 18 يونيو 1910 توفي والده توبياس تراكل،في هذه اللحظة يدخل الموت في حياة تراكل و لا يغادرها ابدا،الموت موجود في ثنايا نصوص تراكل،هذه العزلة الصخرية في مكان مقفر،هذا الظلام و الخراب و هذه الصورة النقية للغياب أصبحت هاجس تراكل،ظهر عليه الاحباط و اللامبالاة و اليأس،في 1 أكتوبر 1910 دخل الخدمة العسكرية كصيدلي،و انتهت مدة الخدمة في 30 سبتمبر 1911،عاد إليه الاحباط مع عادة التجول في الغابات،و المناطق الحزينة و المهجورة،كانت نظرته للمستقبل غريبة،فهو يراه موضوع غامض و مثير للسخرية،وضعه المالي غير مستقر،لا يقابل أحد و لا يحب أحد،أعلنت النمسا و المجر الحرب على صربيا،بدأت الحرب و في يوم 4 نوفمبر 1914 أطلق جورج تراكل النار على رأسه،أثناء وجود وحدته التابعة للجيش الثالث الذي يواجه الجيش الروسي في أوكرانيا،لم يكن من الممكن إنقاذه من حزن لا يوصف،أحد أعظم شعراء اللغة الألمانية في القرن العشرين أطلق النار على رأسه في كراكو،لقد وجد تراكل أخيرا الحل لعدم التوافق مع العالم.